لطالما كان مولعاً بها, إن هذا الحب المستتر لن يلبث أن أن يصير شعلة تحرق الجميع إن لم يوجه فى الإتجاه الصحيح. إبنة الواحد والعشرين عاماً قد قلبت حياته بؤساً, عذاباً مقيماً في الصباح وناراً مستعرة في المساء, كانت الأخت الوحيدة لثلاثة أشقاء وهو ما أزاد الأمور تعقيداً. كثيرا ما لم يتمالك نظراته إلى نافذتها من مكان عمله المتواضع المقابل لبيتها في الحارة البسيطة التي تقطن فيها حتى وهي موصدة. كانت حياته تتمحور حولها فمنها المنشأ وإليها المصب.
تتظاهر هي بالذهاب لشراء شيء لا تحتاجه من مكان لا تعرفه لمجرد المرور من أمامه وإلقاء نظرة عابرة خجلى عليه, يراها فيسرى التيار الكهربي في أطرافه يعتدل في وقفته متجاهلاً ما يعمل عليه ومن يناديه وحتى من يستغيث به, لو أن النار أمسكت في طرف ثوبه لتركها تلتهمه حياً ولن يلتفت قد يبدو لمن يراه سخيفاً كركاتورياً ولكن من أدراهم بما يصهره من الداخل المهم أنها هي تراه صادقاً عفويا.ً تمنحة إبتسامة وتنظر للأرض وتكمل إلى غير هدف تاركة إياه يلملم أشلاؤه, ماذا يريد من الحياة اكثر؟ لقد أضائت يومه, إن هذه الإبتسامة لكافية لأن يعيش على أثرها شهرين, لو مات اليوم لمات قرير العين مرتاح الضمير.
كان شهر مارس قد إنتصف وكان قد قطع شوطاً لا بأس به فى مشوار تقربه منها (أصبح يبتسم حين تبتسم له ولم يعد يسبب قدراً كبيراً من الكوارث نتيجة إرتباكه لرؤيتها). لم يعد يحتمل أكثر ، هذه الفتاه خلقت لتصبح زوجته ولكن ماذا يفعل إنه لا يزال عاجزاً عن إتخاذ أي خطوة أخرى في إتجاه إرتباطه بها بسبب ضيق ذات اليد. إن بلدتهم بلدة بسيطة في ضواحي درعا السورية وأغلب سكانها يعرفون بعضهم هذا إن لم تكن بينهم صلة قرابة ستكون لغيره لا محالة لو لم يتصرف سريعاً. كان هو الغريب الوحيد تقريباً في هذه الحارة كان أحد حملة المؤهلات العليا الذين كان ينبغى أن يصيروا ذوى شأن ذات يوم ولكن فساد الأنظمة جعله مجرد خبازاً في مخبز بحي فقير ولذلك كان يحتاج لدفعة مادية قوية ليجد الشجاعة في التقدم لطلبها ولكن من أين له مثل هذه الدفعة.
لكنه وبرغم الظلم الواقع عليه كأغلب السوريين منذ سنة 1971 لم يكترث يأساً لأمر الإحتجاجات التي أخذت تندلع حوله, كان يعرف أن التعامل البوليسي مع المحتجين والقمع الوحشي لهم يختلف فى سوريا حيث تخرج المظاهرة فيتم إعتقال المشاركين فيها بالكامل لا مكان هنا لإبداء الآراء, إن الإحدى عشر عاماً التى قضاها طبيب العيون في الحكم مملوؤة بمذابح تقشعر لها لاأبدان وليس حصار السويداء فى 2001 والقامشلي فى 2004 بالمدرعات بآخرها. هذه المره لن تختلف ولن يحتفى بالمتظاهرين وهو في ذلك قد شابه أباه الذي أباد مدينة كاملة حين حاولت التظاهر فى الثمانينات. كان يعرف يائسا أن الأمر سينتهي سريعاً.
فى الثامن عشر من مارس سالت أول قطرة دماء سورية على مقربة منهم ومعها بدأ الثلج يزحف على عاموده الفقرى, إن النظام الذي عدل الدستور وناقش هذا التعديل ووافق عليه فى جلسه واحدة لن يسمح بترك الحكم بهذه البساطة حتماً ستزهق بعض الأرواح كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن. ولكن أى ثمن سيدفعه السوريون هذه المرة في محاولة إزاحة هذا النظام عن صدورهم. صارحها بقلقه خصوصاً أن الأمر هذه المرة قريب فطمأنته بصوت مرتجف غير مقنع.
فى الخامس والعشرين من مارس صباحا ما إن وصل إلى المخبز الذى يعمل فيه حتى سقط قلبه بين قدميه لقد رأى والدها وإثنين من إخوانها أحدهما ينزف من رأسه يقفون في الخارج بملابس النوم مع بعض من رجال الحارة الفزع والوجوم هو السمة المسيطرة هنا. لم يجروء على أن يرفع عينيه لنافذتها لقد شعر أن الدنيا تدور من حوله وأن ساقيه لم يعودا يقويان على حمله لكنه تجاسر وذهب مسرعاً يستطلع الأمر فأخبروه أن أخاها الأصغر مطلوب القبض عليه لمشاركته في مظاهرات اليوم. لقد كان أحد الشباب الذين أسقطوا تمثال للرئيس السابق وأن ما يراه الآن ما هي إلا آثار زيارة جهاز الأمن للمنزل فجراً أخبروه كذلك أن الأخ المطلوب كان أذكى من أن يعود إلى المنزل وأنهم لم يفلحوا في القبض عليه بعد.
كان يستمع في هلع وفي عجز غير قادر على النطق تنحنح ليزيل الغصة في خلقه وتمتم بكلمات مواسية لوالدها وأخوانها وإنصرف يفكر. لقد إقتربوا بشدة منها الجرح الغائر في رأس أخيها الأوسط يشي بذلك. ماذا يصنع الآن هل يختطفها ويهرب بعيداً هل يصارح والدها برغبته في الزواج منها الآن ليكون بجوارها بئس التوقيت !! إنصرف وقد عقد العزم على المبيت يومياً في المخبز ليكون تحت نافذتها. ما إن وصل إلى المخبز حتى أتاه أحد زملائه بظرف مغلق قال أنه قد جاء بالبريد في الأمس في وقت متأخر وأنه يخصه, كان خطاب إستدعاؤه العاجل للخدمة العسكرية.
يتبع ….